كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فنرى الحق تبارك وتعالى لا يبخس هؤلاء حقهم، ولكن يُعجِّله لهم في الدنيا؛ لأنه لا حَظَّ لهم في أجر الآخرة، يقول تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].
وهذا كله خاصٌّ بأمور الدنيا، فالذي يحسن شيئًا ينال ثمرته، لكن في جزاء الآخرة نقول لهؤلاء: لا حَظَّ لكم اليوم، وخذوا أجركم مِمَّنْ عملتُم له فقد عملتُم الخير للإنسانية للشهرة وخلود الذكْر، وقد أخذتم ذلك في الدنيا فقد خَلَّدوا ذِكْراكم، ورفعوا شأنكم، وصنعوا لكم التماثيل، ولم يبخسوكم حَقَّكم في الشُّهْرة والتكريم.
ويوم القيامة يواجههم الحق سبحانه وتعالى: فعلتم ليقال.، وقد قيل، فاذهبوا وخذوا ممَّنْ عملتم لهم.
هؤلاء الذين قال الله في حقهم: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَاء حتى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39].
يُفاجأ يوم القيامة أن له إلهًا كان ينبغي أنْ يؤمن به ويعمل ابتغاء وجهه ومرضاته.
إذن: فالإيمان شَرْطٌ لقبول العمل الصالح، فإذا ما توفر الإيمان فقد استوى الذّكَر والأنثى في الثواب والجزاء.
يقول تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97].
هذه هي النتيجة الطبيعة للعمل الصالح الذي يبتغي صاحبه وجه الله والدار الآخرة، فيجمع الله له حظين من الجزاء، حظًا في الدنيا بالحياة الطيبة الهانئة، وحظًا في الآخرة: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
ويقول الحق سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)}.
الاستعاذة: اللجوء والاعتصام بالله من شيء تخافُه، فأنت لا تلجأ ولا تعتصم، ولا تستجير ولا تستنجد إلا إذا استشعرتَ في نفسك أنك ضعيف عن مقاومة عدوك.
فإذا كان عدوك الشيطان بما جعل الله له من قوة وسلطان، وما له من مداخل للنفس البشرية فلا حَوْلَ لك ولا قُوّة في مقاومته إلا أنْ تلجأ إلى الله القوي الذي خلقك وخلق هذا الشيطان، وهو القادر وحده على رَدّه عنك؛ لأن الشيطان في معركة مع الإنسان تدور رحاها إلى يوم القيامة.
وقد أقسم الشيطان للحق تبارك وتعالى، فقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82-83].
فما عليك إلا أن تكون من هؤلاء، ما عليك إلا أنْ ترتمي في حضن ربك عز وجل وتعتصم به، فهو سبحانه القوي القادر على أنْ يدفعَ عنك ما لم تستطع أنت دَفْعه عن نفسك، فلا تقاومه بقوتك أنت؛ لأنه لا طاقة لك به، ولا تدعه ينفرد بك؛ لأنه إن انفرد بك وأبعدك عن الله فسوف تكون له الغلبة.
ولذلك نقول دائمًا: لا حَوْلَ ولا قوةَ إلا بالله، أي: لا حول: لا تحوُّل عن المعصية، ولا قوة. أي: على الطاعة إلا بالله.
ونحن نرى الصبي الصغير الذي يسير في الشارع مثلًا قد يتعرَّض لمَنْ يعتدي عليه من أمثاله من الصبية، أما إذا كان في صُحْبة والده فلا يجرؤ أحد منهم أنْ يتعرضَ له، فما بالك بمَنْ يسير في صُحْبة ربه تبارك وتعالى، ويُلْقي بنفسه في حماية الله سبحانه؟!
وفي مقام الاستعاذة بالله نذكر قاعدة إيمانية علَّمنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: «من استعاذ بالله فأعيذوه».
فيلزم المؤمن أنْ يعيذ من استعاذ بالله، وإنْ كان في أحب الأشياء إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا القدوة في ذلك، حينما تزوج من فتاة على قدر كبير من الحسن والجمال لدرجة أن نساءه غِرْنَ منها، وأخذْنَ في الكَيْد لها وزحزحتها من أمامهن حتى لا تغلبهن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف لهُنَّ ذلك؟ حاولْنَ استغلال أن هذه الفتاة ما تزال صغيرة غِرة، تتمتع بسلامة النية وصفاء السريرة، ليس لديها من تجارب الحياة ما تتعلم منه لُؤْمًا أو مكْرًا، وهي أيضًا ما تزال في نشوة فرحتها بأنْ أصبحت أمًا للمؤمنين، وتحرص كل الحرص على إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستغل نساء النبي صلى الله عليه وسلم هذا كله، وقالت لهن إحداهن: إذا دخلتِ على رسول الله فقولي له: أعوذ بالله منك، فإنه يحب هذه الكلمة.
أخذت الفتاة هذه الكلمة بما لديها من سلامة النية، ومحبة لرسول الله، وحرص على إرضائه، وقالت له: أعوذ بالله منك، وهي لا تدري معنى هذه العبارة فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد عُذْت بمعاذ، الحقي بأهلك».
أي: ما دُمْت استعذت بالله فأنا قبلت هذه الاستعاذة؛ لأنكِ استعذت بمعاذ أي: بمن يجب علينا أن نترككِ من أجله، ثم طلقها النبي صلى الله عليه وسلم امتثالًا لهذه الاستعاذة.
إذن: مَن استعاذ بالله لابد للمؤمن أنْ يُعيذه، ومن استجار بالله لابد للمؤمن أن يكون جنديًا من جنود الله، ويجيره حتى يبلغ مأمنه.
وفي الآية الكريمة أسلوب شرط، اقترن جوابه بالفاء في قوله تعالى: {فاستعذ} [النحل: 98].
فإذا رأيت الفاء فاعلم أن ما بعدها مترتبٌ على ما قبلها، كما لو قُلْتَ: إذا قابلت محمدًا فقُلْ له كذا.. فلا يتم القول إلا بعد المقابلة. أما في الآية الكريمة فالمراد: إذا أردت قراءة القرآن فاستعِذْ؛ لأن الاستعاذة هنا تكون سابقة على القراءة، كما جاء في قَول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6].
فالمعنى: إذا أردتُمْ إقامة الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وكذلك إذا أردتَ قراءة القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن القرآن كلام الله.
ولو آمنّا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتكلم لعلمنا أن قراءة القرآن تختلف عن أي قراءة أخرى، فأنت كي تقرأ القرآن تقوم بعمليات متعددة:
أولها: استحضار قداسة المُنْزِل سبحانه الذي آمنتَ به وأقبلتَ على كلامه.
ثانيها: استحضار صدق الرسول في بلاغ القرآن المنزّل عليه.
ثالثها: استحضار عظمة القرآن الكريم، بما فيه من أوجه الإعجاز، وما يحويه من الآداب والأحكام.
إذن: لديك ثلاث عمليات تستعد بها لقراءة كلام الله في قرآنه الكريم، وكل منها عمل صالح لن يدعكَ الشيطانُ تؤديه دون أنْ يتعرَّض لك، ويُوسوس لك، ويصرفك عما أنت مُقبِلٌ عليه.
وساعتها لن تستطيع منعه إلا إذا استعنت عليه بالله، واستعذتَ منه بالله، وبذلك تكون في معية الله منزل القرآن سبحانه وتعالى، وفي رحاب عظمة المنزل عليه محمد صدقًا، ومع استقبال ما في القرآن من إعجاز وآداب وأحكام.
ومن هنا وجب علينا الاستعاذة بالله من الشيطان قبل قراءة القرآن.
ومع ذلك لا مانع من حَمْل المعنى على الاستعاذة أيضًا بعد قراءة القرآن، فيكون المراد: إذا قرأتَ القرآن فاستعذ بالله.. أي: بعد القراءة؛ لأنك بعد أن قرأتَ كتاب الله خرجتَ منه بزاد إيماني وتجليّات ربانية، وتعرَّضْتَ لآداب وأحكام طُلبت منك، فعليك إذن أن تستعيذ بالله من الشيطان أن يفسِد عليك هذا الزاد وتلك التجليات أو يصرفك عن أداء هذه الآداب والأحكام.
وقوله تعالى: {مِنَ الشيطان الرجيم} [النحل: 98].
أي: الملعون المطرود من رحمة الله؛ لأن الشيطان ليس مخلوقًا جديدًا يحتاج أنْ نُجرِّبه لنعرف طبيعته وكيفية التعامل معه، بل له معنا سوابق عداء منذ أبينا آدم عليه السلام.
وقد حذر الله تعالى آدم منه فقال: {ياءادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117].
وسبق أنْ رُجم ولُعِن وأُبعِد من رحمة الله، فقد هددنا بقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: 62].
إذن: هناك عداوة مسبقة بيننا وبينه منذ خُلِق الإنسان، وإلى قيام الساعة.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)}.
لحكمة أرادها الخالق سبحانه أنْ جعل للشيطان سلطانًا. أي: تسلطًا.
وكلمة {السلطان} مأخوذة من السَّليط، وهو الزيت الذي كانوا يُوقِدون به السُّرج والمصابيح قبل اكتشاف الكهرباء، فكانوا يضعون هذا الزيت في إناء مغلق مثل السلطانية يخرج منه فتيلة، وعندما توقد تمتصّ من هذا الزيت وتُضيء؛ ولذلك سُمِّيتْ الحجة سُلْطانًا؛ لأنها تنير لصاحبها وَجْه الحق.
والسلطان، إما سلطان حجة تقنعك بالفعل، فتفعل وأنت راضٍ مقتنع به، وإما سلطان قَهْر وغلبة يجبرك على الفعل ويحملك عليه قَهْرًا دون اقتناع به.
إذن: تنفيذ المطلوب له قوتان: قوة الحجة التي تُضيء لك وتُوضّح أمامك معالم الحق، وقوة القهر التي تُجبرك على تنفيذ المطلوب عن غير اقتناع وإنْ لم ترهَا.
والحقيقة أن الشيطان لا يملك أيًّا من هاتين القوتين، لا قوة الحجة والإقناع، ولا قوة القهر، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى على لسان الشيطان يوم القيامة: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
هذا حوار يدور يوم القيامة بعد أن انتهتْ المسألة وتكشفتْ الحقيقة، وجاء وقت المصارحة والمواجهة. يقول الشيطان لأوليائه مُتنصلًا من المسئولية: ما كان عندي من سلطان عليكم، لا سلطان حجة تقنعكم أنْ تفعلوا عن رضًا، ولا سلطان قَهْر أجبركم به أن تفعلوا وأنتم كارهون، أنا فقط أشرتُ ووسوستُ فأتيتموني طائعين. {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].
أي: نحن في الخيبة سواء، فلا أستطيع نجدتكم، ولا تستطيعون نجدتي؛ لأن الصُّراخَ يكون من شخص وقع في ضائقة أو شدة لا يستطيع الخلاص منها بنفسه، فيصرخ بصوت عالٍ لعله يجد مَنْ يُغيثه ويُخلِّصه، فإذا ما استجاب له القوم فقد أصرخوه. أي: أزالوا سبب صُرَاخه.
إذن: فالمعنى: لا أنا أستطيع إزالة سبب صراخكم، ولا أنتم تستطيعون إزالة سبب صُرَاخي.
وكذلك في حوار آخر دار بين أهل الباطل الذين تكاتفوا عليه في الدنيا، وها هي المواجهة يوم القيامة: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصافات: 24-30].
والمراد بقوله: {عَنِ اليَمِينِ} أن الإنسان يزاول أعماله بكلتا يديه، لكن اليد اليمنى هي العُمْدة في العمل، فأتيته عن اليمين أي: من ناحية اليد الفاعلة.
وقوله: {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصافات: 30].
أي: في انتظار إشارة منّا، مجرد إشارة، فسارعتم ووقعتم فيما وقعتُم فيه.
فعلى مَنْ يكون تسلط الشيطان وتلك الغلبة والقهر؟
يُوضّح الحق تبارك وتعالى أن تسلّط الشيطان لا يقع على مَنْ آمن به ربًا، ولجأ إليه واعتصم به، وما دُمْت آمنتَ بالله فأنت في مَعيّته وحِفْظه، ولا يستطيع الشيطان وهو مخلوق لله تعالى أنْ يتسلط عليك أو يغلبك.
إذن: الحصن الذي يقينا كيْدَ الشيطان هو الإيمان بالله والتوكّل عليه سبحانه.
فعلى مَنْ إذن يتسلّط الشيطان؟
يُوضِّح الحق تبارك وتعالى الجانب المقابل، فيقول: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ}.
معنى يتولونه: أي يتخذونه وَليًّا يطيعون أمره، ويخضعون لوسوسته، ويتبعون خطواته: {الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100].
أي: مشركون بالله، أو يكون المعنى: وهُمْ به أي بسببه أشركوا؛ لأنه أصبح له أوامر ونواه وهم يطيعونه، وهذه هي العبادة بعينها، فكأنهم عبدوه من دون الله بما قدّموه من طاعته في أمره ونَهْيه.
وقد سَمَّى الله طريقة الشيطان في الإضلال والغواية وَسْوسةً، والوسوسة في الحقيقة هي صَوْت الحُليّ حينما يتحرك في أيدي النساء، فيُحدِث صوتًا رقيقًا فيه جاذبية وإغراء تهيج له النفس، وكذلك الشيطان يدخل إليك عن طريق الإغراء والتزيين، فإذا ما هاجتْ عليك نفسُك وحدّثتْك بالمعصية تركك لها، فعند هذه النقطة تنتهي مُهمته.
ولكن، هل النفس لا تفعل المعصية إلا بوسوسة الشيطان؟
قالوا: لا، فالنفس والمراد هنا النفس الأمّارة بالسوء قد تفعل المعصية من نفسها دون وسوسة من الشيطان، وقد يُوسْوِسُ الشيطان لها، وينزغها نَزغًا ويُؤلِّبها، ويُزِّين لها معصية ما كانت على بالها.
فكيف إذن يُفرّق بين هاتين المعصيتين؟
النفس حينما ترغب في معصية أو شهوة تراها تقف عند معصية بعينها لا تتزحزح عنها، وإذا قاومتَ نفسك، وحاولتَ صَرْفها عن هذه الشهوة ألحَّتْ عليك بها، وطلبتها بعينها، فشهوة النفس إذن ثابتة؛ لأنها تشتهي شيئًا واحدًا تُلح عليه.
ولكن حينما يُوسوِسُ الشيطان لك بشهوة فوجد منك مقاومة وقدرة على مجابهته صرف نظرك إلى أخرى؛ لأنه يريدك عاصيًا بأيِّ شكل من الأشكال، فتراه يُزيِّن لك معصية أخرى وأخرى، إلى أنْ ينال منك ما يريد.
ومن ذلك ما نراه في الرشوة مثلًا والعياذ بالله فإنْ رفضتَ رشوة المال زيَّن لك رشوة الهدية، وإنْ رفضتَ رشوة الهدية زيَّنَ لك الرشوة بقضاء مصلحة مقابلة.
وهكذا يظل هذا اللعين وراءك حتى يصل إلى نقطة ضَعْف فيك، إذن: فهو ليس كالنفس يقف بك عند شهوة واحدة، ولكنه يريد أن يُوقِع بك على أيِّ صورة من الصور.
ولكي نقفَ على مداخل الشيطان ونكون منه على حَذر يجب أنْ نعلم أن الشيطان على علم كبير وصل به إلى صفوف الملائكة، بل سَمَّوه طاووس الملائكة، ويمكن أن نقف على شيء من علم الشيطان في دِقّة قَسَمه، حينما أقسم للحق تبارك وتعالى أن يُغوي بني آدم، فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82-83].
هكذا عرف الشيطان أنْ يُقسِم القسَم المناسب، فلم يَقُلْ: بقوتي ولا بحجتي سأغوي الخَلْق، بل عرف لله تعالى صفة العزة، فهو سبحانه عزيز لا يُغلب؛ لذلك ترك لخلْقه حرية الإيمان به، فقال: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
فالمعنى: فبعزتك عن خَلْقك: يؤمن مَنْ يؤمن، ويكفر مَنْ يكفر، سوف أدخل من هذا الباب لإغواء البشر، ولكني لا أجرؤ على الاقتراب ممَّنْ اخترتَهم واصطفيتَهم، لن أتعرَّضَ لعبادك المخلصين، ولا دَخْلَ لي بهم، ولا سلطان لي عليهم.
كذلك يجب أن نعلم أن الشيطان دقيق في تخطيطه، وهذا من مداخله وتلبيسه الذي يدعونا إلى الحذر من هذا اللعين. فالشيطان لا حاجة له في أن يذهب إلى الخمارات مثلًا، فقد كفاه أهلُها مشقة الوَسْوسة، ووفّروا عليه المجهود، هؤلاء هم أولياؤه وأحبابه ومُريحوه بما هم عليه من معصية الله، ولكنه في حاجة إلى أن يكون في المساجد ليُفسِد على أهل الطاعة طاعتهم.
وقد أوضح هذه القضية وفطن إليها الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان، وكان مشهورًا بالفِطْنة، وعلى دراية بمداخل الشيطان وتلبيسه، وكل هذا جعل له باعًا طويلًا في الإفتاء، وقد عرض عليه أحدهم هذه المسألة: قال: يا إمام كان لديّ مال دفنته في مكان كذا، وجعلتُ عليه علامة، فجاء السَّيْل وطمس هذه العلامة، فلم أَهتدِ إليه، فماذا أفعل؟ فتبسَّم أبو حنيفة وقال: يا بُني ليس في هذا علم، ففي أيّ باب من أبواب الفقه سيجد أبو حنيفة هذه القضية؟! ولكني سأحتال لك، وفعلًا تفتقتْ قريحة الإمام عن هذه الحيلة التي تدل على عِلْمه وفقهه، قال له: إذا جئتَ في الليل فتوضّأ، وقُمْ بين يدي ربّك مُتهجِّدًا، وفي الصباح أخبرني خبرك، وفي صلاة الفجر قابله الرجل مُبتسِمًا. يقول: لقد وجدتُ المال، فقال: كيف؟ قال الرجل: حينما وقفتُ بين يديْ ربي في الصلاة تذكرت المكان وذهبتُ فوجدت مالي، فضحك الإمام وقال: والله لقد علمت أن الشيطان لن يدعَك تُتِم ليلتك مع ربك. اهـ.